فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} أي: من مكة إلى المدينة لنصر الله ورسوله {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي: طاعته {وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ} أي: وطنوا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي: يتولى بعضهم بعضًا في النصرة والمظاهرة، ويقوم مقام أهله ونفسه، ويكون أحق به من كل أحد، ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال فيما بلغنا: «تآخوا أخوين أخوين»، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «هذا أخي». وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله وعم النبي صلى الله عليه وسلم، وزيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم أخوين. وإليه أوصى حمزة يوم أُحد، حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت.
وجعفر ذو الجناحين الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل أخوين، وأبو بكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة أخوين، وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين، وأبو حذيفة وعباد بن بشر أخوين، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين، وأبو ذر الغفاري والمنذر بن عَمْرو أخوين، وسلمان الفارسي وأبو الدرداء أخوين، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين، وبلال الحبشي وأبو رويحة الخثعمي أخوين.
ولما خرج بلال إلى الشام، وأقام فيها مجاهدًا، قال له عمر: إلى من نجعل ديوانك؟ قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبدًا، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبيني. فضم إليه، وضم ديوان الحبشة إلى خثعم، لمكان بلال منهم.
قال ابن إسحاق: فهؤلاء من سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه:

.تنبيه [على المراد من هذه الولاية]:

نقل الواحدي عن ابن عباس وغيره، أن المراد من هذه الولاية، هي الولاية في الميراث. قال ابن كثير: لما تآخوا كانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد.
قال الخفاجي: فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري، إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري. واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة، ثم توارثوا بالنسب بعد، إذ لم تكن هجرة.
والولي القريب والناصر، لأن أصله القرب المكاني، ثم جعل للمعنوي، كالنسب والدين والنصرة.
فقد جعل صلى الله عليه وسلم، في أول الإسلام، التناصر الديني أخوة، وأثبت لها أحكام الأخوة الحقيقية من التوارث، فلا وجه لما قيل إن هذا التفسير لا تساعده اللغة، فالولاية على هذا، والوراثة المسببة عن القرابة الحكمية. انتهى.
ومراده بما قيل، ما ذكره الرازي في تضعيف تفسير الولاية بالوراثة، حيث قال: واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى، لأن هذا اللفظ مشعر بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب.
ويقال: السلطان ولي من لا ولي له، ولا يفيد الإرث، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ولا يفيد الإرث، بل الولاية تفيد القرب، فيمكن حمله على غير الإرث، وهو كون بعضهم معظمًا للبعض، مهتمًا بشأنه، مخصوصًا بمعاونته ومناصرته، والمقصود أن يكونوا يدًا واحدة على الأعداء، وأن يكون حب كل واحد لغيره جاريًا مجرى حبه لنفسه.
وإذا كان اللفظ محتملًا لهذا المعنى، كان حمله على الإرث بعيدًا عن دلاله اللفظ، لاسيما وهم يقولون: إن ذلك الحكم صار منسوخًا بقوله تعالى في آخر الآية: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به، ثم الحكم بأنه صار منسوخًا بآية أخرى مذكورة معه؟ هذا في غاية البعد، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك، فحينئذ يجب المصير إليه، إلا أن دعوى الإجماع بعيدة.
وأقول: لعموم هذا الخطاب ونظمه وجه في إثبات التوارث، لاسيما وقد نفى تعالى ولاية من لم يهاجر نفيًا استغرق أقرب الأقارب حيث قال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} أي: بأن أقاموا في بواديهم: {مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} أي: إلى المدينة. وقول تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي: إذا استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني، فيجب عليكم أن تنصروهم على أعدائهم المشركين، لأنهم إخوانكم في الدين {إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} أي: عهد ومهادنة إلى مدة، فلا تعينوهم عليهم، لئلا تخفروا ذمتكم، وتنقضوا عهدكم {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فلا تخالفوا أمره.
تنبيهات:
الأول: احتج من ذهب إلى أن المراد من قوله تعالى: {مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} أي: من توليتهم في الميراث، وأنه هو المارد في الآية السابقة أيضًا، بقوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} فإن هذا موالاة في الدين، فحينئذ لا يجوز حمل الموالاة المنفية على النصرة والمظاهرة، لأنها لازمة لكل حال لكلا الفريقين.
وأجاب الرازي بما معناه: إن الولاية هنا ليس المراد بها مطلق التولي حتى يرده ما ذكروه، بل عنى بها معنى خاص، وهو علاقة شديدة، ومحبة أكيدة، وإيثار قوي، وأخوة وثيقة، ولا يلزم من النصر التولي، فقد ينصر المرء ذميًا لأمر ما ولا يتولاه، ويدافع عن عبده أو أمته ويعينهما ولا يتولاهما- والله أعلم-.
الثاني: يظهر أن هذه الآية كسوابقها مما نزل إثر واقعة بدر، وطلب من كل من آمن من البادين أن يهاجر، ليكثر سواد المسلمين، ويظهر اجتماعهم، وإعانة بعضهم لبعض، فتتقوى بألفتهم شوكتهم، ولم يزُل طلب الهجرة إلا بفتح مكة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد فتح مكة». رواه البخاري عن مجاشع بن مسعود.
الثالث: شمل نفي الموالاة عن الذين لم يهاجروا وقتئذ، حرمانهم من المغانم والفيء. روى الإمام أحمد عن بريدة بن الحُصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا. وقال: «اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتها ما أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم من التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك، أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم».
قال ابن كثير: انفرد به مسلم، وعنده زيادات أخر.
الرابع: قرأ حمزة (ولايتهم) بكسر الواو، الباقون بفتحها.
قال الشهاب: جاء في اللغة: الولاية مصدرًا بالفتح والكسر، فقيل: هما لغتان فيه بمعنى واحد، وهو القرب الحسي والمعنوي، وقيل: بينهما فرق، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه، والكسر ولاية السلطان، قاله أبو عبيدة. وقيل الفتح من النصرة والنسب. والكسر من الإمارة. قاله الزجاج.
وخطأ الأصمعي قراءة الكسر، وهو المخطئ لتواترها، واختلفوا في ترجيح إحدى القراءتين. ولما قال المحققون من أهل اللغة: إن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء، ويجعل فيه كاللفافة والعمامة، وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال، كالكتابة والخياطة، ذهب الزجاج وتبعه غيره إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعة، لذا جاء فيها الكسر، كالإمارة.
وهذا يحتمل أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك، فتكون حقيقة ويحتمل- كما في بعض شروح الكشاف- أن تكون استعارة، كما سموا الطب صناعة. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
هذه الآيات استئناف ابتدائي للإعلام بأحكام موالاة المسلمين للمسلمين الذين هاجروا والذين لم يهاجروا، وعدم موالاتهم للذين كفروا، نشأ عن قول العباس بن عبد المطلب حين أسرّ ببدر أنّه مسلم، وأنّ المشركين أكرهوه على الخروج إلى بدر، ولعلّ بعض الأسرى غيره قد قال ذلك وكانوا صادقين، فلعل بعض المسلمين عطفوا عليهم وظنّوهم أولياء لهم، فأخبر الله المسلمين وغيرهم بحكم من آمن واستمرّ على البقاء بدار الشرك.
قال ابن عطية: مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا والكفار، والمهاجرين بعد الحديبية وذِكْرُ نِسَب بعضهم عن بعض.
وتعرضت الآية إلى مراتب الذين أسلموا فابتدأت ببيان فريقين اتّحدَت أحكامهم في الولاية والمؤاساة حتى صاروا بمنزلة فريق واحد، وهؤلاء هم فريقا المهاجرين والأنصار الذين امتازوا بتأييد الدين.
فالمهاجرون امتازوا بالسبق إلى الإسلام وتكبّدوا مفارقة الوطن.
والأنصار امتازوا بإيوائهم، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشرك وأهلِه، وقد اشترك الفريقان في أنّهم آمنوا وأنّهم جاهدوا، واختص المهاجرون بأنّهم هاجروا واختص الأنصار بأنّهم آووا ونصروا، وكان فضل المهاجرين أقوى؛ لأنّهم فضلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم، وبادر إليه أكثرهم، فكانوا قدوة ومثالًا صالحًا للناس.
والمهاجرة هجر البلاد، أي الخروج منها وتركها، قال عَبدة بن الطبيب:
إنّ التي ضَربتْ بيتًا مُهَاجَرةً ** بكوفةِ الجندِ غَالتْ وُدَّها غُول

وأصل الهجرة الترك واشتقّ منه صيغة المفاعلة لخصوص ترك الدار والقوم، لأنّ الغالب عندهم كان أنّهم يتركون قومهم، ويتركهم قومهم إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم.
وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين، فقد هاجر إبراهيم عليه السلام {وقال إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين} [الصافات: 99].